ليست المرة الاولى التي تضجّ بها وسائل الاعلام ومراكز الدراسات بشأن مسار المتغيرات السياسية الإيرانية بعد انتخابات أوصلت الإصلاحيين إلى سدّة الرئاسة في الجمهورية الإسلامية في ايران بعد فوز مسعود بزشكيان.

سيكون توجه السلطة الجديدة مختلفاً عن فترة حكم الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، في اتجاهي الداخل والخارج معاً، لكن المتغيّرات المرتقبة، محدودة بسقف المرشد الأعلى للجمهورية السيد علي الخامنئي، بموجب نظام الثورة الإسلامية في ايران. وهو ما خبرته العواصم الدولية في فترة حكم كل من الرئيسين محمد خاتمي وحسن روحاني، فلم تحصل متغيّرات جوهرية دسمة في السياسات الخارجية والدفاعية.

هناك مصلحة إيرانية بسلوك درب المصالحات الاقليمية، والمضي بالتعاون الاستراتيجي السياسي والاقتصادي مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية منها، ومتابعة نسج التحالفات مع الصين وروسيا وتركيا، وفتح الباب لاعادة العلاقات مع الدول الغربية.

واذا كان عهد رئيسي شهد محطات تعاونية خارجية، اقليمية تحديداً، الاّ ان المنتظر من عهد الرئيس المُنتخب تعزيز صلات بلاده بتلك الدول.

واذا كان الشعب الإيراني يعطي اهمية للإصلاحات الاقتصادية الداخلية، فهو يدرك ألا امكانية لنهضة بلاده من دون ازالة العقوبات الخارجية المفروضة عليه وتعزيز علاقات طهران مع عواصم العالم النافذة، وخصوصاً المؤثرة دولياً.

استطاع النظام الإيراني، عبر مسار طويل، من ترسيخ قواعده في المؤسسات القيادية وفي الوعي الشعبي، وعمل أجهزة الدولة ومؤسساتها بكل إنسابية، وعدم الوقوع تحت ضغط أية أزمة، مهما كانت ذات شأن، وعليه يمكن القول، بأن إيران لن تتأثر جوهرياً بأي مرحلة ، بل ان هوية وبيئة الرئيس ستؤثر في التكتيك الداخلي وسُبل التعاطي مع الخارج، من دون ان تغيير يطيح بثوابت الدولة العميقة. ويمكن لحظ الآتي:

أ-على أهمية موقع رئاسة الجمهورية كرأس للسلطة التنفيذية أي الحكومة، إلا أن موقع القرار الحاسم والحاكم في كل القضايا، هو موقع المرشد. وعليه لم يحصل أي تهديد لمركز القيادة والتحكم في المشهد الإيراني، بعد وفاة رئيسي. سريعاً استلم محمد مخبر نائب الرئيس، شؤون الرئاسة، وكلف علي السيد باقري شؤون وزارة الخارجية، وحدد موعداً للانتخابات، التي جرت من دون معوقات وحصل انتخاب رئيس اصلاحي.

ب–الدستور: إن الطبيعة الواضحة لنصوص الدستور الإيراني والتي لا تترك أي مجال للتأويل أو للفراغ في أي موقع تسمح بشكل آلي بملء أي فراغ، دون أية مشاكل دستورية.

ج–إن المرجعية الحاسمة لموقع المرشد، تستطيع أن تؤمّن مناخاً من الطمأنينة والاستقرار، عند أي استحقاق، مهما عظم شأنه.

د–إن مشهدية الجنازة الحاشدة لرئيسي، وكذلك جنائز رفاقه،وتحديداً وزير الخارجية، ليست واجباً اجتماعياً محلياً، يقوم به أقارب وأصدقاء وأهالي محلة أي فقيد، بل هي دليل على رسوخ النظام. وهي بعثت برسائل سياسية مهمة إلى المعارضين في الداخل، الاّ إمكانية لإثارة الإشكالات، كالتي حصلت بعد الاضطرابات التي أعقبت مقتل الفتاة مها أميني، بسبب قضية الحجاب، ورسائل إلى الخارج الذي يرعى أنشطة المعارضين ،وخصوصاّ جماعة مريم رجوي، الذين يتنقلون من بلد إلى آخر.

كما أراد داعمو النظام عبر مسيرات التشييع، إظهار الاحتضان الشعبي لتيارهم، الذي يستظل عباءة المرشد، وينال رضاه، ورعايته. وأمام التشدد الغربي والأميركي تحديداً، أراد هؤلاء القول: من الأجدى الإلتفاف، حول المؤسسات والقيادة والتيار المحافظ والمتشدد، والذي كان رئيسي أكبر تعبيراته. لذا، فإن تلك الرسائل تمّ إيصالها بكل إتجاه، معطوفة على وقائع داخلية أساسية: مجلس خبراء القيادة، ومجلس صيانة الدستور، مع مجلس النواب، وموقع المرشد، ودور الحوزة الدينية، والأجهزة العسكرية، والحرس الثوري، والدولة العميقة في الجيش، والقضاء، والتعليم، وخصوصاً الجامعات، كلها سدود، أمام أية محاولة لاختراق النظام أو التمرد عليه وإسقاطه.

التجربة السلطوية... هل تسقط؟

يُنظر بالشك والريبة إلى التجربة الإيرانية في الحكم، في ظل سيناريوهات عن إمكانية سقوطها. لكن الوقائع تشير إلى أن تلك التجربة السلطوية تستند إلى:

1-وليدة الفكر الشيعي "الاثنا عشري"، نظام وتجربة حكم على أساس ديني، وعقائدي، وفقهي، في ظل فقر المدونة الشيعية إلى تجربة سلطوية سابقة، ليتم البناء عليها. يعتبرها انصارها أنها لا تزال في إطار النشوء والتطوير المستمر، ووضع الإجابات والتعديلات، التي تواجه التجربة في مسارها. مثال على ذلك موضوع إلغاء منصب رئيس الحكومة في إيران.

2-ضعف المعارضة الإيرانية، وافتقادها إلى الحاضنة الشعبية، وضعف خطابها امام الخطاب الديني للسلطة، ولجوئها إلى العنف وعمليات الاغتيال، بين وقت وآخر. وحال المعارضات الإيرانية يعبر عنه المشهد الذي يحيط بعناصر "مجاهدي خلق"، بعد طردهم من مخيم أشرف في العراق، وانتقالهم إلى ألبانيا، وكذلك حال عائلة شاه إيران.

3-باتت المتغيّرات الدولية تخدم السلطة الإيرانية، من حيث الإنفتاح المتدرّج على طهران، خصوصاً بعد تقديم النظام نفسه، على انه طرف يُمكن الوثوق به، في حال الإتفاقيات، مهما كان نوعها. ليدلّ من جهة ثانية، حجم الحضور الدولي في تقديم العزاء بوفاة الرئيس إبراهيم رئيسي، إلى أن سياسة عزل إيران، لم تعد ذاتها، ولم تجدِ نفعاً، بل إن شعوراً إقليمياً يتبلور، عنوانه أن التعاون مع إيران، والقبول لحقائق ووقائع التحولات السياسية، أفضل من سياسات العداء معها، والحروب التي دفعت شعوب المنطقة أكلافها، على حساب مصالحها، وأمنها، واستقرارها.

4-يعلم الإيرانيون الأهمية الاستراتيجية لبلدهم، الذي يشكل موقعاً حاجزاً بين الكتل الدولية المتصارعة، وهي التي كانت ساحة تنافس شديد، إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق. وهم يستخدمون تلك الورقة الجغرافية عند كل مفصل جيوسياسي.

5-تستفيد القيادة الإيرانية من السباق على جذب إيران، إلى الاصطفافات القائمة في الصراع والتنافس الدولي الحالي. فالصين أكبر مستورد للنفط الإيراني، وهي صاحبة أكبر الاتفاقيات الاقتصادية الطويلة ال الأمد مع إيران، وكذلك روسيا التي تشهد علاقاتها مع إيران قفزات إلى الإمام. وفي الجانب الأوروبي يسعى بعض قادة أوروبا بالمفرق، إلى إبقاء قنوات التواصل قائمة ضمناً مع إيران. أما الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من حائط الانقطاع الذي قام بين البلديْن وحالة العداء بينهما منذ العام 1979، إلا أن الأمور لم تصل إلى حالة الحرب المباشرة، حيث هناك مصلحة مشتركة لإعادة تفعيل العلاقات بين الأميركيين والإيرانيين، رغم المطبّات التي تحاول واشنطن وطهران إزالتها تدريجياً، لكنها تتأثر بمسارين: السباق السياسي الأميركي بين ديمقراطيين وجمهوريين، والخطاب الإيراني بشأن النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط والملف النووي.

المُرشد بين إختياره وصلاحياته

يتم تعيين المُرشد الأعلى في إيران، من قبل مجلس الخبراء، وهوهيئة مكوّنة من 88 من رجال الدين والقانون. ينتخب الشعب تلك الهيئة، ثم تختار المرشد الذي يشغل منصبه حتى وفاته، لكن في ظروف استثنائية ومحددة، أعطى القانون لمجلس الخُبراء حق عزل المرشد، بشرط الإجماع على أنه يتصرف ضد الشريعة الإسلامية،أو ضد المصالح الوطنية الإيرانية.

يجب على أي مرشح، في أيّ انتخابات رسمية، أن يحصل بداية، على موافقة من مجلس صيانة الدستور تسمح له بالترشح. ويتكون هذا المجلس من اثني عشر عضواً، ستة منهم يعيّنهم المُرشدالأعلى، والستة الآخرون يعينهم مجلس القضاء، الذي بدوره خاضع لسلطة المرشد الأعلى ضمنيّاً.

كل ذلك يثبّت حقيقة أن مجلس الخُبراء، الذي يتمتع بسلطة عزلالمُرشد الأعلى وتحديد خليفته، يخضع أساساً لقرار المُرشد،إنطلاقاً من إختبار المرشد الأعلى لترشيحات جميع أعضاء المجلس، من خلال مجلس صيانة الدستور. كما أن المُرشد الأعلى هو الذي يقرّر بشكل أساسي من يمكنه الترشح للرئاسة، ومن يسقط ترشيحه ويخرج من المنافسة. وحفلت كل الفترة الماضية، برفض خامنئي ترشيح سياسيين، عبر إقناع مجلس صيانة الدستور، برفض تلك الطلبات، لأسباب جوهرية تنطلق من عدم قناعة المرشد الأعلى بسياسات هؤلاء، أو خلفياتهم الإيديولوجية العميقة، أو إنفتاحهم المُطلق اللامحدود، الذي يعتبره المرشد الحالي خطراً على الجمهورية الإسلامية.

تُعتبر السياسة الخارجية والدفاعية لإيران هي عبارة عن شراكة في القرار، بين المُرشد الأعلى، والمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يتألف من الرئيس والوزراء الرئيسيين، والقادة العسكريين، وأعضاء يحدّدهم المُرشد شخصياً. يناقش مجلس الأمن القومي الملفات المتعلقة بالأمور الدفاعية، وما يتعلق بالسياسة الخارجية، ثم يقدّم المقترحات بشأن تنفيذها للمرشد، كي يوافق عليها.

"ولاية الفقيه"... وشرعية التوريث

تمضي السلطة في إيران قُدماً، في ترسيخ وعي مفاهيمي للنظرية التي تنبثق عنها السلطة، وتشكيل مرجعية القيادة، أي نظرية "ولاية الفقيه". ويمكن لحظ التطور الكبير الذي طرأ على التداول بهذه النظرية والحاصل أيضاً داخل النظرية ذاتها.

في السنين الأولى من عمر النظام الذي قام بعد سقوط الشاه، كان التداول بالنظرية إسماً ومفهوماً، في أطر ليست بحجم ما هي عليه الآن، فكان يُشار إلى أتباع قيادة الخميني، بإسم "أتباع خط الإمام". وكانت مقولة "خط الإمام" تعادل مقولة ولاية الفقيه اليوم.

هذه النظرية التي أشار إليها من القدماء المحقق الكركي، والفقيه الشيعي محمد بن مكي الجزيني، إلا أن الامام الخميني دفع بها إلى معترك الأفكار السياسية في العصر الحديث، ليستلم الفقيه بموجبها القيادة والسلطة والمرجعية، كنائب "للإمام الغائب المهدي محمد بن الحسن العسكري(المُنتظر)، مع كامل صلاحيات، وسلطات "الإمام المعصوم الذي هو خليفة الرسول محمد"، وفق القاعدة الشيعية، وهي النظرية المفارقة لنظرية "ولاية الفقيه"، المقيدة وغير المطلقة.

وإذا كان الامام الخميني قد أنزل النظرية إلى المعترك السياسي، مع كل الأبعاد الدينية لها، إلا أنه اعتبر أن شرعيتها تنبثق من إرادة وقبول الشعب، الذي هو صوّت في الاستفتاء على نظام "الجمهورية الإسلامية" ودستورها، بموافقة وقبول كاسحيْن، لأن مجلس خبراء القيادة، المنوط به تعيين "الولي الفقيه" بحال شغوره، هو منتخب من الشعب، مما يعني أن ممرّ وشرعية النظام، هو الشعب.

أما اليوم، فإنّ مقولة الولاية، صارت لفظة، وفكرة، وامتثالاً، وطاعة،حاضرة في الأداء الإيراني، حتى أن المناورات العسكرية تجري تحت عنوان أمر الولاية، كما أن الحديث بدأ عن وجود مدارس فقهية، تنظر إلى شخص "الولي الفقيه"، بأنّه معيّن بالتحديد والتنصيص، من الله، وليس على مجلس خبراء القيادة والشعب، الاّ الكشف عن هذه الإرادة الإلهية، تماماً كما الأمر في انتخاب بابا المسيحيين الكاثوليك في روما. إذ يعتبر اللاهوتيون أن مجمع الكرادلة، عندما ينتخب البابا، فهو يكشف عن إرادة الروح القدس، التي حدّدت، ونصّت، وعيّنت مسبقاً البابا. ويترسّخ شيئاً فشيئاً، النظام في إيران، ونظريته، لتصبح أكثر دينية، وكأنّها بأمر مباشر من لدن الله، مع مقبولية شعبية، ورضا في الأوساط الحوزوية، مما يعني قطع الطريق على أية محاولة للتصدّي للنظام، ومعارضته، وجعل إسقاطه من المستحيلات. وإذا كان لأية معارضة من فرص للحياة، فإنّ السلطة الإيرانية تريدها، تحت سقف النظام، وفكرة المؤسسة وأدبياتها.

يدور حالياً النقاش بشأن خليفة السيد خامنئي في "ولاية الفقيه"، خصوصاً في ظل تغييب كلّ الأسماء عن واجهة البحث، ليتبيّن بعد رحيل رئيسي، أنّه كان مطروحاً لتلك الولاية، بإعتباره الأقرب إلى المرشد خامنئي، لكن تمّ غضّ النظر عن اسمه قبل ستة أشهر من وفاته.

لكن حالياً يدور بحث جدّي عن الذي سيتولى منصب الولي الفقيه بعد السيد خامنئي: لماذا لا يكون نجله مجتبى ولياً للفقيه؟ خصوصاً ان مجتبى سيحصل بعد سنتين على صفة "آية الله"، ويتمّم الشروط الدينية. واذا كان الرفض تحت عنوان عدم جواز التوريث، فإن البحث بدأ حول النظرية المُشار إليها أعلاه، بأن "الولي الفقيه" يمثّل "الإمام المهدي المنتظر" وهو "خليفة الرسول محمد"، وبما أنّ "الأئمة المعصومين الإثنا عشر، توارثوا الإمامة-الولاية، فيحق للولي الفقيه حالياً(خامنئي)، أن يورث الولاية، في حال توافر شروطها في احد أبنائه–ورثته"، ومجتبى سيكون كامل المزايا وتوافر الشروط. لم تُبت تلك النظرية في التوريث بعد، لكن امر طرحها انطلاقاً من هذا الباب قائم، بغياب الأسماء الوازنة التي يُمكن تسويقها داخل البيت الإيراني.

*"النشرة" تنشر جزءاً من دراسة مختصرة اعدّها مركز الاستشراف للمعلومات.